فصل: تفسير الآيات (17- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (13- 14):

{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
{يعملون له ما يشاء من محاريب} أي مساجد وقيل: هي الأبنية المرتفعة والقصور والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، كان مما عملوا له بيت المقدس وذلك أن داود عليه الصلاة والسلام ابتدأه ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يديه فلما توفي داود عليه السلام واستخلف سليمان عليه الصلاة والسلام أحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال، وخص كل طائفة بعمل فارسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والبلور من معادنهما وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً منهم من يستخرج الذهب والفضة من معادنهما، ومنهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي من أماكنها، ومنهم من يأتيه بالمسك والعنبر والطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الأحجار وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين البلور الصافي وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن على وجه تلك الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد فكان يضيء في الظلمة، كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، وأعلمهم أنه بناه لله تعالى وأن كل شيء فيه خالص له واتخذ ذلك اليوم عيداً. روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل، حكماً يوافق حكمه فأوتيه وسأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا أخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه» أخرجه النسائي ولغير النسائي، «سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة» وذكر نحوه قوله لا ينهزه أي لا ينهضه إلا الصلاة قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه الصلاة والسلام حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة، وهدم المسجد وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر، وحمله إلى دار ملكه بالعراق وبنى الشياطين لسليمان باليمن قصوراً وحصوناً عجيبة من الصخر.
وقوله عز وجل: {وتماثيل} أي ويعملون له تماثيل أي صوراً من نحاس ورخام وزجاج قيل كانوا يصورون السباع والطيور وغيرها، وقيل كانوا يصورون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل: يحتمل أن اتخاذ الصور كان مباحاً في شريعتهم وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من الأمور القبيحة في العقل كالقتل والظلم والكذب ونحوها مما يقبح في كل الشرائع قيل: عملوا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما وقيل: عملوا له الطواويس والعقبان والنسور على درجات سريره وفوق كرسيه لكي يهابه من أراد الدنو منه {وجفان} أي قصاع {كالجواب} أي كالحياض التي يجبى فيها الماء أي يجتمع قيل كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها {وقدور راسيات} أي ثابتات على أثافيها لا تحرك، ولا تنزل عن أماكنها لعظمهن وكان يصعد إليها بالسلالم وكان باليمن {اعلموا آل داود شكراً} أي وقلنا يا آل داود واعملوا بطاعة الله تعالى شكراً على نعمه قيل: المراد من آل داود نفسه وقيل داود وسليمان وأهل بيته قال ثابت البناني كان داود نبي الله عليه الصلاة والسلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي {وقليل من عبادي الشكور} أي قليل العامل بطاعتي شكراً لنعمتي.
قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} أي على سليمان قال: العلماء: كان سليمان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابهم فدخله المرة التي مات فيها وكان سبب ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا وقد نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا فيقول لأي شيء خلقت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع. فإن كانت لغرس أمره بها فغرست وإن كانت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال: لها ما أنت قالت أنا الخروبة قال ولأي شيء نبت قالت لخراب مسجدك، قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، ثم نزعها وغرسها في حائط له ثم قال: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب شيئاً، ويعلمون ما في غد ثم دخل المحراب وقام يصلي على عادته متكئاً على عصاه فمات قائماً، وكان للمحراب كوى من بين يديه، ومن خلقه فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياة سليمان، وينظرون إليه ويحسبون أنه حي ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته، وانقطاعه قبل ذلك فمكثوا يدأبون بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتاً فعلموا بموته قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله تعالى: {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض} يعني الأرضة {تأكل منسأته} قال البخاري يعني عصاه {فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} معناه علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في التعب والشقاء مسخرين لسليمان، وهو ميت ويظنونه حياً أراد الله تعالى بذلك أن يعلم الجن أنه لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون ذلك لجهلهم وقيل في معنى الآية أنه ظهر أمر الجن وانكشف للانس أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه، وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين.

.تفسير الآيات (15- 16):

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
وقوله عز وجل: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية} عن فروة بن مسيك المرادي قال: «لما أنزل في سبأ ما أنزل قال رجل يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة» أخرجه الترمذي مع زيادة. وقال حديث حسن غريب وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان في مسكنهم أي بمأرب من أرض اليمن، آية أي دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ثم فسر الآية فقال تعالى: {جنتان} أي بستانان {عن يمين وشمال} يعني عن يمين الوادي وشماله وقيل عن يمين من أتاهما وشماله وقيل كان لهم واد قد أحاطت بهم الجنتان {كلوا} أي قيل لهم كلوا {من رزق ربكم} أي من ثمار الجنتين قيل كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً {واشكروا له} أي على ما رزقكم من النعمة واعملوا بطاعته {بلدة طيبة} أي أرض مأرب، وهي سبأ بلدة طيبة فسيحة، ليست بسبخة وقيل: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حية، ولا عقرب وكان الرجل يمر ببلدتهم، وفي ثيابه القمل فيموت القمل من طيب الهواء {ورب غفور} قال وهب أي وربكم إن شكرتم على ما رزقكم رب غفور لمن شكره. قوله عز وجل: {فأعرضوا} قال وهب: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم بنعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف الله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم {فأرسلنا عليهم سيل العرم} العرم الذي لا يطاق قيل: كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء وقيل: العرم السكر الذي يحبس الماء وقيل: العرم الوادي.
قال ابن عباس: ووهب وغيرهما، كان لهم سد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالصخر والقار بين الجبلين وجعلت لهم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض وبنت دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا اسغنوا عنه سدوها فإذا جاءهم المطر اجتمع إليهم ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقيوا بعدها مدة، فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وأخرب أرضهم وقال وهب رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار فساورتها، حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل وهم لا يعلمون بذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل ممزق، حتى صاروا مثلاً عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبا فذلك قوله تعالى فأرسلنا عليهم سيل العرم {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} قيل هو شجر الأراك وثمره البربر وقيل: كل نبت أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، فهو خمط وقيل هو ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع على صور الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به {وأثل} قيل هو الطرفاء وقيل شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه {وشيء من سدر قليل} هو شجر معروف ينتفع بورقة في الغسل وثمره النبق ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به بل كان سدراً برياً لا يصلح لشيء قيل: كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم.

.تفسير الآيات (17- 22):

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}
قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا} أي ذلك فعلنا بهم جزاء كفرهم {وهل نجازي إلا الكفور} أي هل يكافأ بعمله إلا الكفور لله في نعمه، قيل المؤمن يجزي ولا يجزى يجازى بحسناته، ولا يكافأ بسيئاته {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} أي بالماء والشجر، وهي قرى الشام {قرى ظاهرة} أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها قيل: كان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام، وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام {وقدرنا فيها السير} أي قدرنا سيرهم بين هذه القرى فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى القرية ذات مياه وأشجار، فكان مابين اليمن والشام كذلك {سيروا} أي وقلنا لهم سيروا {فيها ليالي وأياماً} أي في أي وقت شئتم {آمنين} أي لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً فبطروا النعمة، وسئموا الراحة وطغوا ولم يصبروا على العافية فقالوا: لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيها وطلبوا الكد والتعب في الأسفار {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} وقرئ باعد بين أسفارنا أي اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد فلما تمنوا ذلك عجل الله لهم الإجابة {وظلموا أنفسهم} أي بالبطر والطغيان {فجعلناهم أحاديث} أي عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم {ومزقناهم كل ممزق} أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق قيل: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد فأما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومر الأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذين قدم منهم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج ولحق آل خزيمة بالعراق {إن في ذلك لآيات} أي لعبراً ودلالات {لكل صبار} أي عن المعاصي {شكور} أي لله على نعمه قيل، من المؤمن صابر على البلاء شاكر للنعماء وقيل: المؤمن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. قوله عز وجل: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} قيل على أهل سبأ وقيل على الناس كلهم {فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني المؤمنين كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين، وقيل هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله قال لأغوينهم ولأضلنهم ولم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم وقال الحسن إنه لم يسل عليهم سيفاً، ولا ضربهم بسوط إنما وعدهم ومناهم فاغتروا {وما كان له عليهم من سلطان} يعني ما كان تسليطنا إياه عليهم {إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك} يعني لنرى ونميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع، والظهور إذا كان معلوماً عنده لأنه عالم الغيب {وربك على كل شيء حفيظ} يعني رقيب وقيل حفيظ بمعنى حافظ.
قوله تعالى: {قل} يعني قل يا محمد لكفار مكة {ادعوا الذين زعمتم} يعني أنهم آلهة {من دون الله} والمعنى ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع، ثم وصف عجز الآلهة فقال تعالى: {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} يعني من خير وشر ونفع وضر {وما لهم} يعني للآلهة {فيهما} يعني في السموات، الأرض {من شرك} يعني من شركة {وما له} يعني لله {منهم} يعني من الآلهة {من ظهير} عون.